وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
ثم وصفهم الله - تعالى - بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال :
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا . . . ) .
الفساد : خروج الشيء عن حالة الاعتدال والاستقامة ، وعن كونه منتفعاً به ، وضده الصلاح ، يقال : فسد الشيء فساداً ، وأفسده إفساداً .
والمراد به هنا كفرهم ، ومعاصيهم ، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد في الأرض ، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة .
ومن أبرز معاصي هؤلاء المنافقين ، ما كانوا يدعون إليه في السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه في طريق دعوته ، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا .
وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ) بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله ، لأن مصدر القول المعبر عن النهي عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً ، فقد يصل آذانهم هذا النهي مرة من صريح القول . وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض .
وعلق بالفعل الذي هو الإِفساد قوله : ( فِي الأرض ) إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده ، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد في الاحتياط له ، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون في بقعة محصورة هي المدينة المنورة .
ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال :
( قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) .
فقد بالغوا في الرد فحصروا أنفسهم أولاً في الإصلاح مبالغة المفجوع الذي أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقة ، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا : ( إِنّا مُصْلِحُونَ ) بل قالوا " إنما " ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم في الإصلاح ثابت لازم .
قال الراغب : صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما في قلوبهم من المر ، كما في قوله - تعالى - : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) وقوله : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ) وقوله : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً . الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ولقد كذبهم الله - تعالى - تكذيباً مؤكداً في دعواهم أنهم مصلحون فقال :
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ
( ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع في الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذاناً بأن ما قالوه يجب أن يهمل إهمالاً ، بل يجب أن يكون وصفهم بالإِفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس ، حاصر الذهن .
ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها : وصل " ألا " " بإن " الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه ، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ ، ومنها إسمية الجملة ، ومنها إفادة قصرهم على الإِفساد في مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون .
ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعي عجباً ، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الاصلاح ، مع أنهم في الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد ، لما كان الأمر كذلك ، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله :
( ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .
أي : أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم ، ونفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد ، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئاً ، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإِنسان مفسداً ولا يشعر بذلك ، مع أن أثر فساده ظاهر في العيان ، مرئي لكل ذي حس .
فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم ، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحاً ، والشر خيراً .
وليس عدم شعورهم رافعاً العقاب عنهم ، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصاً إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة ، وسطوع البراهين .
Comments
Post a Comment